فصل: الآية رقم ‏(‏127‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 الآية رقم ‏(‏ 103 ‏:‏ 104‏)‏

‏{‏فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا، ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما‏}‏

قوله تعالى‏{‏قضيتم‏}‏ معناه فرغتم من صلاه الخوف وهذا يدل على أن القضاء يستعمل فيما قد فعل قي وقته؛ ومنه قوله تعالى‏{‏فإذا قضيتم مناسككم ‏}‏البقرة‏:‏ 200‏]‏ وقد تقدم‏.‏ الثانية‏:‏ قوله تعالى‏{‏فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم ‏}‏ذهب الجمهور إلى أن هذا الذكر المأمور به‏.‏ إنما هو إثر صلاة الخوف؛ أي إذا فرغتم من الصلاة فاذكروا الله بالقلب واللسان، على أي حال كنتم ‏}‏قياما وقعودا وعلى جنوبكم ‏}‏وأديموا ذكره بالتكبير والتهليل والدعاء بالنصر لا سيما في حال القتال‏.‏ ونظيره ‏}‏إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ‏}‏الأنفال‏:‏ 45‏]‏‏.‏ ويقال‏{‏فإذا قضيتم الصلاة ‏}‏بمعنى إذا صليتم في دار الحرب فصلوا على الدواب، أو قياما أو قعودا أو على جنوبكم إن لم تستطيعوا القيام، إذا كان خوفا أو مرضا؛ كما قال تعالى في آية أخرى‏{‏فإن خفتم فرجالا أو ركبانا‏}‏البقرة‏:‏ 239‏]‏ وقال قوم‏:‏ هذه الآية نظيرة التي في ‏}‏آل عمران ‏}‏؛ فروي أن عبدالله بن مسعود رأى الناس يضجون في المسجد فقال‏:‏ ما هذه الضجة ‏؟‏ قالوا‏:‏ أليس الله تعالى يقول ‏}‏فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم‏}‏ ‏؟‏ قال‏:‏ إنما يعني بهذا الصلاة المكتوبة إن لم تستطع قائما فقاعدا، وإن لم تستطع فصل على جنبك‏.‏ فالمراد نفس الصلاة؛ لأن الصلاة ذكر الله تعالى، وقد اشتملت على الأذكار المفروضة والمسنونة؛ والقول الأول أظهر‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏فإذا اطمأننتم‏}‏ أي أمنتم‏.‏ والطمأنينة سكون النفس من الخوف‏.‏ ‏}‏فأقيموا الصلاة‏}‏ أي فأتوها بأركانها وبكمال هيئتها في السفر، وبكمال عددها في الحضر‏.‏ ‏}‏إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا‏}‏ أي مؤقتة مفروضة‏.‏ وقال زيد بن أسلم‏{‏موقوتا ‏}‏منجما، أي تؤدونها في أنجمها؛ والمعنى عند أهل اللغة‏:‏ مفروض لوقت بعينه؛ يقال‏:‏ وقته فهو موقوت‏.‏ ووقته فهو مؤقت‏.‏ وهذا قول زيد بن أسلم بعينه‏.‏ وقال‏{‏كتابا ‏}‏والمصدر مذكر؛ فلهذا قال‏{‏موقوتا‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولا تهنوا‏}‏ أي لا تضعفوا، وقد تقدم في ‏}‏آل عمران‏}‏‏.‏ ‏}‏في ابتغاء القوم‏}‏ طلبهم‏.‏ قيل‏:‏ نزلت في حرب أحد حيث أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج في آثار المشركين، وكان بالمسلمين جراحات، وكان أمر ألا يخرج معه إلا من كان في الوقعة، كما تقدم في ‏}‏آل عمران‏}‏ وقيل‏:‏ هذا في كل جهاد‏.‏

قوله تعالى‏{‏إن تكونوا تألمون‏}‏ أي تتألمون مما أصابكم من الجراح فهم يتألمون أيضا مما يصيبهم، ولكم مزية وهي أنكم ترجون ثواب الله وهم لا يرجونه؛ وذلك أن من لا يؤمن بالله‏.‏ لا يرجون من الله شيئا‏.‏ ونظير هذه الآية ‏}‏إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله ‏}‏آل عمران‏:‏ 140‏]‏ وقد تقدم‏.‏ وقرأ عبدالرحمن الأعرج ‏}‏أن تكونوا ‏}‏بفتح الهمزة، أي لأن وقرأ منصور بن المعتمر ‏}‏إن تكونوا تألمون ‏}‏بكسر التاء‏.‏ ولا يجوز عند البصريين كسر التاء لثقل الكسر فيها‏.‏ ثم قيل‏:‏ الرجاء هنا بمعنى الخوف؛ لأن من رجا شيئا فهو غير قاطع بحصوله فلا يخلو من خوف فوت ما يرجو‏.‏ وقال الفراء والزجاج‏:‏ لا يطلق الرجاء بمعنى الخوف إلا مع النفي؛ كقوله تعالى‏{‏ما لكم لا ترجون لله وقارا ‏}‏نوح‏:‏ 13‏]‏ أي لا تخافون لله عظمة‏.‏ وقوله تعالى‏{‏للذين لا يرجون أيام الله ‏}‏الجاثية‏:‏ 14‏]‏ أي لا يخافون‏.‏ قال القشيري‏:‏ ولا يبعد ذكر الخوف من غير أن يكون في الكلام نفي، ولكنها ادعيا أنه لم يوجد ذلك إلا مع النفي‏.‏ والله أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏105‏)‏

‏{‏إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما‏}‏

في هذه الآية تشريف للنبي صلى الله عليه وسلم وتكريم وتعظيم وتفويض إليه، وتقويم أيضا على الجادة في الحكم، وتأنيب على ما رفع إليه من أمر بني أبيرق ‏!‏ وكانوا ثلاثة إخوة‏:‏ بشر وبشير ومبشر، وأسير بن عروة ابن عم لهم؛ نقبوا مشربة لرفاعة بن زيد في الليل وسرقوا أدراعا له وطعاما، فعثر على ذلك‏.‏ وقيل إن السارق بشير وحده، وكان يكنى أبا طعمة أخذ درعا؛ قيل‏:‏ كان الدرع في جراب فيه دقيق، فكان الدقيق ينتثر من خرق في الجراب حتى انتهى إلى داره، فجاء ابن أخي رفاعة واسمه قتادة بن النعمان يشكوهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فجاء أسير بن عروة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله، إن هؤلاء عمدوا إلى أهل بيت هم أهل صلاح ودين فأنبوهم بالسرقة ورموهم بها من غير بينة؛ وجعل يجادل عنهم حتى غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتادة ورفاعة؛ فأنزل الله تعالى‏{‏ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم ‏}‏النساء‏:‏ 107‏]‏ الآية‏.‏ وأنزل الله تعالى‏{‏ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا ‏}‏النساء‏:‏ 112‏]‏ وكان البريء الذي رموه بالسرقة لبيد بن سهل‏.‏ وقيل‏:‏ زيد بن السمين وقيل‏:‏ رجل من الأنصار‏.‏ فلما أنزل الله ما أنزل، هرب ابن أبيرق السارق إلى مكة، ونزل على سلافة بنت سعد بن شهيد؛ فقال فيها حسان بن ثابت بيتا يعرض فيه بها، وهو‏:‏

وقد أنزلته بنت سعد وأصبحت ينازعها جلد استها وتنازعه

ظننتم بأني خفي الذي قد صنعتمو وفينا نبي عنده الوحي واضعه

فلما بلغها قالت‏:‏ إنما أهديت لي شعر حسان؛ وأخذت رحله فطرحته خارج المنزل، فهرب إلى خيبر وأرتد‏.‏ ثم إنه نقب بيتا ذات ليلة ليسرق فسقط الحائط عليه فمات مرتدا‏.‏ ذكر هذا الحديث بكثير من ألفاظه الترمذي وقال‏:‏ حديث حسن غريب، لا نعلم أحدا أسنده غير محمد بن سلمة الحراني‏.‏ وذكره الليث والطبري بألفاظ مختلفة‏.‏ وذكر قصة موته يحيى بن سلام في تفسيره، والقشري كذلك وزاد ذكر الردة‏.‏ ثم قيل‏:‏ كان زيد بن السمين ولبيد بن سهل يهوديين‏.‏ وقيل‏:‏ كان لبيد مسلما‏.‏ وذكره المهدوي، وأدخله أبو عمر في كتاب الصحابة له، فدل ذلك على إسلامه عنده‏.‏ وكان بشير رجلا منافقا يهجو أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وينحل الشعر غيره، وكان المسلمون يقولون‏:‏ والله ما هو إلا شعر الخبيث‏.‏ فقال شعرا يتنصل فيه؛ فمنه قوله‏:‏

أو كلما قال الرجال قصيدة نحلت وقالوا ابن الأبيرق قالها

وقال الضحاك‏:‏ أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع يده وكان مطاعا، فجاءت اليهود شاكين في السلاح فأخذوه وهربوا به؛ فنزل ‏}‏ها أنتم هؤلاء ‏}‏النساء‏:‏ 109‏]‏ يعني اليهود‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏بما أراك الله‏}‏ معناه على قوانين الشرع؛ إما بوحي ونص، أو بنظر جار على سنن الوحي‏.‏ وهذا أصل في القياس؛ وهو يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى شيئا أصاب؛ لأن الله تعالى أراه ذلك، وقد ضمن الله تعالى لأنبيائه العصمة؛ فأما أحدنا إذا رأى شيئا يظنه فلا قطع فيما رآه، ولم يرد رؤية العين هنا؛ لأن الحكم لا يرى بالعين‏.‏ وفي الكلام إضمار، أي بما أراكه الله، وفيه إضمار آخر، وامض الأحكام على ما عرفناك من غير اغترار باستدلالهم‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولا تكن للخائنين خصيما‏}‏ اسم فاعل؛ كقولك‏:‏ جالسته فأنا جليسه، ولا يكون فعيلا هنا بمعنى مفعول؛ يدل على ذلك ‏}‏ولا تجادل ‏}‏فالخصيم هو المجادل وجمع الخصيم خصماء‏.‏ وقيل‏:‏ خصيما مخاصما اسم فاعل أيضا‏.‏ فنهى الله عز وجل رسول عن عضد أهل التهم والدفاع عنهم بما يقوله خصمهم من الحجة‏.‏ وفي هذا دليل على أن النيابة عن المبطل والمتهم في الخصومة لا تجوز‏.‏ فلا يجوز لأحد أن يخاصم عن أحد إلا بعد أن يعلم أنه محق‏.‏ ومشى الكلام في السورة على حفظ أموال اليتامى والناس؛ فبين أن مال الكافر محفوظ عليه كمال المسلم، إلا في الموضع الذي أباحه الله تعالى‏.‏

قال العلماء‏:‏ ولا ينبغي إذا ظهر للمسلمين نفاق قوم أن يجادل فريق منهم فريقا عنهم ليحموهم ويدفعوا عنهم؛ فإن هذا قد وقع على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفيهم نزل قوله تعالى‏{‏ولا تكن للخائنين خصيما ‏}‏وقوله‏{‏ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم ‏}‏النساء‏:‏ 107‏]‏‏.‏ والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد منه الذين كانوا يفعلونه من المسلمين دونه لوجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه تعالى أبان ذلك بما ذكره بعد بقوله‏{‏ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا ‏}‏النساء‏:‏ 109‏]‏‏.‏ والآخر‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حكما فيما بينهم، ولذلك كان يعتذر إليه ولا يعتذر هو إلى غيره، فدل على أن القصد لغيره‏.‏

 الآية رقم ‏(‏106‏)‏

‏{‏واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما‏}‏

ذهب الطبري إلى أن المعنى‏:‏ استغفر الله من ذنبك في خصامك للخائنين؛ فأمره بالاستغفار لما هم بالدفع عنهم وقطع يد اليهودي‏.‏ وهذا مذهب من جوز الصغائر على الأنبياء، صلوات الله عليهم‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا ليس بذنب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما دافع على الظاهر وهو يعتقد براءتهم‏.‏ والمعنى‏:‏ واستغفر الله للمذنبين من أمتك والمتخاصمين بالباطل؛ ومحلك من الناس أن تسمع من المتداعيين وتقضي بنحو ما تسمع، وتستغفر للمذنب‏.‏ وقيل‏:‏ هو أمر بالاستغفار على طريق التسبيح، كالرجل يقول‏:‏ استغفر الله؛ على وجه التسبيح من غير أن يقصد توبة من ذنب‏.‏ وقيل‏:‏ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد بنو أبيرق، كقوله تعالى‏{‏يا أيها النبي اتق الله ‏}‏الأحزاب‏:‏ 1‏]‏، ‏}‏فإن كنت في شك ‏}‏يونس‏:‏ 94‏]‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏107‏)‏

‏{‏ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما‏}‏

أي لا تحاجج عن الذين يخونون أنفسهم؛ نزلت في أسير بن عروة كما تقدم‏.‏ والمجادلة المخاصمة، من الجدل وهو الفتل؛ ومنه رجل مجدول الخلق، ومنه الأجدل للصقر‏.‏ وقيل‏:‏ هو من الجدالة وهي وجه الأرض، فكل واحد من الخصمين يريد أن يلقي صاحبه عليها؛ قال العجاج‏:‏

قد أركب الحالة بعد الحالة وأترك العاجز بالجدالة

منعفرا ليست له محاله

الجدالة الأرض؛ من ذلك قولهم‏:‏ تركته مجدلا؛ أي مطروحا على الجدالة‏.‏

‏}‏إن الله لا يحب‏}‏ أي لا يرضى عنه ولا ينوه بذكر‏.‏ ‏}‏من كان خوانا أثيما‏}‏ خائنا‏.‏ ‏(‏وخوانا ‏)‏ أبلغ؛ لأنه من أبنية المبالغة؛ وإنما كان ذلك لعظم قدر تلك الخيانة‏.‏ والله أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏108 ‏:‏ 109‏)‏

‏{‏يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا، ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا‏}‏

قال الضحاك‏:‏ لما سرق الدرع اتخذ حفرة في بيته وجعل الدرع تحت التراب؛ فنزلت ‏}‏يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله ‏}‏يقول‏:‏ لا يخفى مكان الدرع على الله ‏}‏وهو معهم‏}‏

أي رقيب حفيظ عليهم‏.‏ وقيل‏{‏يستخفون من الناس ‏}‏أي يستترون، كما قال تعالى‏{‏ومن هو مستخف بالليل ‏}‏الرعد‏:‏ 10‏]‏ أي مستتر‏.‏ وقيل‏:‏ يستحيون من الناس، وهذا لأن الاستحياء سبب الاستتار‏.‏ ومعنى ‏}‏وهو معهم ‏}‏أي بالعلم والرؤية والسمع، هذا قول أهل السنة‏.‏ وقالت الجهمية والقدرية والمعتزلة‏:‏ هو بكل مكان، تمسكا بهذه الآية وما كان مثلها، قالوا‏:‏ لما قال ‏}‏وهو معهم‏}‏ ثبت أنه بكل مكان، لأنه قد أثبت كونه معهم تعالى الله عن قولهم، فإن هذه صفة الأجسام والله تعالى متعال عن ذلك ألا ترى مناظرة بشر في قول الله عز وجل‏{‏ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ‏}‏المجادلة‏:‏ 7‏]‏ حين قال‏:‏ هو بذاته في كل مكان فقال له خصمه‏:‏ هو في قلنسوتك وفي حشوك وفي جوف حمارك‏.‏ تعالى الله عما يقولون ‏!‏ حكى ذلك وكيع رضي الله عنه‏.‏ ومعنى ‏}‏يبيتون‏}‏ يقولون‏.‏ قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس‏.‏ ‏}‏ما لا يرضى من القول‏}‏ أي ما لا يرضاه الله لأهل طاعته‏.‏ ‏}‏من القول ‏}‏أي من الرأي والاعتقاد، كقولك‏:‏ مذهب مالك الشافعي‏.‏ وقيل‏{‏القول ‏}‏بمعنى المقول؛ لأن نفس القول لا يبيت‏.‏

قوله تعالى‏{‏ها أنتم هؤلاء‏}‏ يريد قوم بشير السارق لما هربوا به وجادلوا عنه‏.‏ قال الزجاج‏{‏هؤلاء‏}‏ بمعنى الذين‏.‏ ‏}‏جادلتم‏}‏ حاججتم‏.‏ ‏}‏في الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة‏}‏ استفهام معناه الإنكار والتوبيخ‏.‏ ‏}‏أم من يكون عليهم وكيلا‏}‏ الوكيل‏:‏ القائم بتدبير الأمور، فالله تعالى قائم بتدبير خلقه‏.‏ والمعنى‏:‏ لا أحد يقوم بأمرهم إذا أخذهم الله بعذابه وأدخلهم النار‏.‏

 الآية رقم ‏(‏110‏)‏

‏{‏ومن يعمل سوء أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما‏}‏

قال ابن عباس‏:‏ عرض الله التوبة على بني أبيرق بهذه الآية، أي ‏}‏ومن يعمل سوءا ‏}‏بأن يسرق ‏}‏أو يظلم نفسه ‏}‏بأن يشرك ‏}‏ثم يستغفر الله‏}‏ يعني بالتوبة، فإن الاستغفار باللسان من غير توبة لا ينفع، وقد بيناه في ‏}‏آل عمران‏}‏‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ نزلت الآية في شأن وحشي قاتل حمزة أشرك بالله وقتل حمزة، ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ إني لنادم فهل لي من توبة ‏؟‏ فنزل‏{‏ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ‏}‏الآية‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بهذه الآية العموم والشمول لجميع الخلق‏.‏ وروى سفيان عن أبي إسحاق عن الأسود وعلقمة قالا‏:‏ قال عبدالله بن مسعود من قرأ هاتين الآيتين من سورة ‏}‏النساء ‏}‏ثم استغفر له‏{‏ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما‏}‏‏.‏ ‏}‏ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما‏}‏النساء‏:‏ 64‏]‏‏.‏ وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال‏:‏ كنت إذا سمعت حديثا من رسول الله صلى الله عليه وسلم نفعني الله به ما شاء، وإذا سمعته من غيره حلفته، وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر قال‏:‏ ما من عبد يذنب ذنبا ثم يتوضأ ويصلي ركعتين ويستغفر الله إلا غفر له، ثم تلا هذه الآية ‏}‏ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏111 ‏:‏112‏)‏

‏{‏ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما، ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا‏}‏

قوله تعالى‏{‏ومن يكسب إثما‏}‏ أي ذنبا ‏}‏فإنما يكسبه على نفسه‏}‏ أي عاقبته عائدة عليه‏.‏ والكسب ما يجر به الإنسان إلى نفسه نفعا أو يدفع عنه به ضررا؛ ولهذا لا يسمى فعل الرب تعالى كسبا‏.‏

قوله تعالى‏{‏ومن يكسب خطيئة أو إثما‏}‏ قيل‏:‏ هما بمعنى واحد كرر لاختلف اللفظ تأكيدا‏.‏ وقال الطبري‏:‏ إنما فرق بين الخطيئة والإثم أن الخطيئة تكون عن عمد وعن غير عمد، والإثم لا يكون إلا عن عمد‏.‏ وقيل‏:‏ الخطيئة ما لم تتعمده خاصة كالقتل بالخطأ‏.‏ وقيل‏:‏ الخطيئة الصغيرة، والإثم الكبيرة، وهذه الآية لفظها عام يندرج تحته أهل النازلة وغيرهم‏.‏

قوله تعالى‏{‏ثم يرم به بريئا‏}‏ قد تقدم اسم البريء في البقرة‏.‏ والهاء في ‏}‏به ‏}‏للإثم أو للخطيئة‏.‏ لأن معناها الإثم، أولهما جميعا‏.‏ وقيل‏:‏ ترجع إلى الكسب‏.‏ ‏}‏فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا‏}‏ تشبيه؛ إذ الذنوب ثقل ووزر فهي كالمحمولات‏.‏ وقد قال تعالى‏{‏وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم ‏}‏العنكبوت‏:‏ 13‏]‏‏.‏ والبهتان من البهت، وهو أن تستقبل أخاك بأن تقذفه بذنب وهو منه بريء‏.‏ وروى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏أتدرون ما الغيبة ‏)‏ ‏؟‏ قالوا‏:‏ الله ورسوله أعلم؛ قال‏:‏ ‏(‏ذكرك أخاك بما يكره ‏)‏‏.‏ قيل‏:‏ أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته ‏)‏‏.‏ وهذا نص؛ فرمي البريء بهت له‏.‏ يقال‏:‏ بهته بهتا وبهتا وبهتانا إذا قال عليه ما لم يفعله‏.‏ وهو بهات والمقول له مبهوت‏.‏ ويقال‏:‏ بهت الرجل ‏(‏بالكسر ‏)‏ إذا دهش وتحير‏.‏ وبهت ‏(‏بالضم ‏)‏ مثله، وأفصح منهما بهت، كما قال الله تعالى‏{‏فبهت الذي كفر‏}‏البقرة‏:‏ 258‏]‏ لأنه يقال‏:‏ رجل مبهوت ولا يقال‏:‏ باهت ولا بهيت، قال الكسائي‏.‏

 الآية رقم ‏(‏113‏)‏

‏{‏ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولولا فضل الله عليك ورحمته‏}‏ ما بعد ‏}‏لولا‏}‏ مرفوع بالابتداء عند سيبويه، والخبر محذوف لا يظهر، والمعنى‏{‏ولولا فضل الله عليك ورحمته ‏}‏بأن نبهك على الحق، وقيل‏:‏ بالنبوءة والعصمة‏.‏ ‏}‏لهمت طائفة منهم أن يضلوك ‏}‏عن الحق؛ لأنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبرئ ابن أبيرق من التهمة ويلحقها اليهودي، فتفضل الله عز وجل على رسوله عليه السلام بأن نبهه على ذلك وأعلمه إياه‏.‏ ‏}‏وما يضلون إلا أنفسهم ‏}‏لأنهم يعملون عمل الضالين، فوباله لهم راجع عليهم‏.‏ ‏}‏وما يضرونك من شيء ‏}‏لأنك معصوم‏.‏ ‏}‏وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة‏}‏ هذا ابتداء كلام‏.‏ وقيل‏:‏ الواو للحال، كقولك‏:‏ جئتك والشمس طالعة؛ ومنه قول امرئ القيس‏:‏

وقد أغتدي والطير في وكناتهما

فالكلام متصل، أي ما يضرونك من شيء مع إنزال الله عليك القرآن‏.‏ ‏}‏والحكمة‏}‏ القضاء بالوحي‏.‏ ‏}‏وعلمك ما لم تكن تعلم‏}‏ يعني من الشرائع والأحكام وكان فضله عليك كبيرا‏.‏ و‏}‏تعلم‏}‏ في موضع نصب؛ لأنه خبر كان‏.‏ وحذفت الضمة من النون للجزم، وحذفت الواو لالتقاء الساكنين‏.‏

 الآية رقم ‏(‏114‏)‏

‏{‏لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما‏}‏

أراد ما تفاوض به قوم بني أبيرق من التدبير، وذكروه النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ والنجوى‏:‏ السر بين الاثنين، تقول‏:‏ ناجيت فلانا مناجاة ونجاء وهم ينتجون ويتناجون‏.‏ ونجوت فلانا أنجوه نجوا، أي ناجيته، فنجوى مشتقة من نجوت الشيء أنجوه، أي خلصته وأفردته، والنجوة من الأرض المرتفع لانفراده بارتفاعه عما حوله، قال الشاعر‏:‏

فمن بنجوته كمن بعقوته والمستكن كمن يمشي بقرواح

فالنجوى المسارة، مصدر، وقد تسمى به الجماعة، كما يقال‏:‏ قوم عدل ورضا‏.‏ قال الله تعالى‏{‏وإذ هم نجوى‏}‏الإسراء‏:‏ 47‏]‏ فعلى الأول يكون الأمر أمر استثناء من غير الجنس‏.‏ وهو الاستثناء المنقطع‏.‏ وقد تقدم، وتكون ‏}‏من‏}‏ في موضع رفع، أي لكن من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ودعا إليه ففي نجواه خير‏.‏ ويجوز أن تكون ‏}‏من‏}‏ في موضع خفض ويكون التقدير‏:‏ لا خير في كثير من نجواهم إلا نجوى من أمر بصدقة ثم حذف‏.‏ وعلى الثاني وهو أن يكون النجوى اسما للجماعة المنفردين، فتكون ‏}‏من‏}‏ في موضع خفض على البدل، أي لا خير في كثير من نجواهم إلا فيمن أمر بصدقة‏.‏ أو تكون في موضع نصب على قول من قال‏:‏ ما مررت بأحد إلا زيدا‏.‏ وقال بعض المفسرين منهم الزجاج‏:‏ النجوى كلام الجماعة المنفردة أو الاثنين كان ذلك سرا أو جهرا، وفيه بعد‏.‏ والله أعلم‏.‏ والمعروف لفظ يعم أعمال البر كلها‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ المعروف هنا الفرض، والأول أصح‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كل معروف صدقة وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق ‏)‏‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏المعروف كاسمه وأول من يدخل، الجنة يوم القيامة المعروف وأهله ‏)‏‏.‏ وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ لا يزهدنك في المعروف كفر من كفره، فقد يشكر الشاكر بأضعاف جحود الكافر‏.‏ وقال الحطيئة‏:‏

من يفعل الخير لا يعدم جوازيه لا يذهب العرف بين الله والناس

وأنشد الرياشي‏:‏

يد المعروف غنم حيث كانت تحملها كفور أو شكور

ففي شكور الشكور لها جزاء وعند الله ما كفر الكفور

وقال الماوردي‏{‏فينبغي لمن يقدر على إسداء المعروف أن يعجله حذار فواته، ويبادر به خيفة عجزه، وليعلم أنه من فرص زمانه، وغنائم إمكانه، ولا يهمله ثقة بالقدرة عليه، فكم من واثق بالقدرة فاتت فأعقبت ندما، ومعول على مكنة زالت فأورثت خجلا، كما قال الشاعر‏:‏

ما زلت أسمع كم من واثق خجل حتى ابتليت فكنت الواثق الخجلا

ولو فطن لنوائب دهره، وتحفظ من عواقب أمره لكانت مغانمه مذخورة، ومغارمه مجبورة، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من فتح عليه باب من الخير فلينتهزه فإنه لا يدري متى يغلق عنه ‏)‏‏.‏ وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لكل شيء ثمرة وثمرة المعروف السراح ‏)‏‏.‏ وقيل لأنوشروان‏:‏ ما أعظم المصائب عندكم ‏؟‏ قال‏:‏ أن تقدر على المعروف فلا تصطنعه حتى يفوت‏.‏ وقال عبدالحميد‏:‏ من أخر الفرصة عن وقتها فليكن على ثقة من فوتها‏.‏ وقال بعض الشعراء‏:‏

إذا هبت رياحك فاغتنمها فإن لكل خافقة سكون

ولا تغفل عن الإحسان فيها فما تدري السكون متى يكون

وكتب بعض ذوي الحرمات إلى وال قصر في رعاية حرمته‏:‏

أعلى الصراط تريد رعية حرمتي أم في الحساب تمن بالإنعام

للنفع في الدنيا أريدك، فأنتبه لحوائجي من رقدة النوام

وقال العباس رضي الله عنه‏:‏ لا يتم المعروف إلا بثلاث خصال‏:‏ تعجيله وتصغيره وستره، فإذا عجلته هنأته، وإذا صغرته عظمته، وإذا سترته أتممته‏.‏ وقال بعض الشعراء‏:‏

زاد معروفك عندي عظما أنه عندك مستور حقير

تتناساه كأن لم تأته وهو عند الناس مشهور خطير

ومن شرط المعروف ترك الامتنان به، وترك الإعجاب بفعله، لما فيهما من إسقاط الشكر وإحباط الأجر‏.‏ وقد تقدم في ‏}‏البقرة ‏}‏بيانه‏.‏

قوله تعالى‏{‏أو إصلاح بين الناس‏}‏ عام في الدماء والأموال والأعراض، وفي كل شيء يقع التداعي والاختلاف فيه بين المسلمين، وفي كل كلام يراد به وجه الله تعالى‏.‏ وفي الخبر‏:‏ ‏(‏كلام ابن آدم كله عليه لا له إلا ما كان من أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو ذكر الله تعالى ‏)‏‏.‏ فأما من طلب الرياء والترؤس فلا ينال الثواب‏.‏ وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه‏:‏ رد الخصوم حتى يصطلحوا، فإن فصل القضاء يورث بينهم الضغائن‏.‏ وسيأتي في ‏}‏المجادلة ‏}‏ما يحرم من المناجاة وما يجوز إن شاء الله تعالى‏.‏ وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال،‏:‏ من أصلح بين اثنين أعطاه الله بكل كلمة عتق رقبة‏.‏ وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي أيوب‏:‏ ‏(‏ألا أدلك على صدقة يحبها الله ورسوله، تصلح بين أناس إذا تفاسدوا، وتقرب بينهم إذا تباعدوا ‏)‏‏.‏ وقال الأوزاعي‏:‏ ما خطوة أحب إلى الله عز وجل من خطوة في إصلاح ذات البين، ومن أصلح بين اثنين كتب الله له براءة من النار‏.‏ وقال محمد بن المنكدر‏:‏ تنازع رجلان في ناحية المسجد فملت إليهما، فلم أزل بهما حتى اصطلحا؛ فقال أبو هريرة وهو يراني‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏من أصلح بين أثنين استوجب ثواب شهيد ‏)‏‏.‏ ذكر هذه الأخبار أبو مطيع مكحول بن المفضل النسفي في كتاب اللؤلئيات له، وجدته بخط المصنف في وريقة ولم ينبه على موضعها رضي الله عنه‏.‏ و‏(‏ابتغاء ‏)‏ نصب على المفعول من أجله‏.‏

 الآية رقم‏(‏115 ‏:‏ 116‏)‏

‏{‏ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا، إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا‏}‏

قال العلماء‏:‏ هاتان الآيتان نزلنا بسبب ابن أبيرق السارق، لما حكم النبي صلى الله عليه وسلم عليه بالقطع وهرب إلى مكة وارتد؛ قال سعيد بن جبير‏:‏ لما صار إلى مكة نقب بيتا بمكة فلحقه المشركون فقتلوه؛ فأنزل الله تعالى‏{‏إن الله لا يغفر أن يشرك به ‏}‏إلى قوله‏{‏فقد ضل ضلالا بعيدا‏}‏‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ قدم نفر من قريش المدينة وأسلموا ثم انقلبوا إلى مكة مرتدين فنزلت هذه الآية ‏}‏ومن يشاقق الرسول‏}‏‏.‏ والمشاقة المعاداة‏.‏ والآية وإن نزلت في سارق الدرع أو غيره فهي عامة في كل من خالف طريق المسلمين‏.‏ و‏}‏الهدى ‏}‏‏:‏ الرشد والبيان، وقد تقدم‏.‏ وقوله تعالى‏{‏نوله ما تولى ‏}‏يقال‏:‏ إنه نزل فيمن ارتد؛ والمعنى؛ نتركه وما يعبد؛ عن مجاهد‏.‏ أي نكله إلى الأصنام التي لا تنفع ولا تضر؛ وقال مقاتل‏.‏ وقال الكلبي؛ نزل قوله تعالى‏{‏نوله ما تولى ‏}‏في ابن أبيرق؛ لما ظهرت حاله وسرقته هرب إلى مكة وارتد ونقب حائطا لرجل بمكة يقال له‏:‏ حجاج بن علاط، فسقط فبقي في النقب حتى وجد على حاله، وأخرجوه من مكة؛ فخرج إلى الشام فسرق بعض أموال القافلة فرجموه وقتلوه، فنزلت ‏}‏نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا‏}‏‏.‏ وقرأ عاصم وحمزة وأبو عمرو ‏}‏نولِهْ ‏}‏‏}‏ونصلِهْ ‏}‏بجزم الهاء، والباقون بكسرها، وهما لغتان‏.‏

قال العلماء في قوله تعالى‏{‏ومن يشاقق الرسول ‏}‏دليل على صحة القول بالإجماع، وفي قوله تعالى‏{‏إن الله لا يغفر أن يشرك به ‏}‏رد على الخوارج؛ حيث زعموا أن مرتكب الكبيرة كافر‏.‏ وقد تقدم القول في هذا المعنى‏.‏ وروى الترمذي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال‏:‏ ما في القرآن آية أحب إلي من هذه الآية‏{‏إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ‏}‏قال‏:‏ هذا حديث غريب‏.‏ قال ابن فورك‏:‏ وأجمع أصحابنا على أنه لا تخليد إلا للكافر، وأن الفاسق من أهل القبلة إذا مات غير تائب فإنه إن عذب بالنار فلا محالة أنه يخرج منها بشفاعة الرسول؛ أو بابتداء رحمة من الله تعالى‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ إن شيخا من الأعراب جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله، إني شيخ منهمك في الذنوب والخطايا، إلا أني لم أشرك بالله شيئا منذ عرفته وآمنت به، فما حالي عند الله ‏؟‏ فأنزل الله تعالى‏{‏إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ‏}‏الآية‏.‏

 الآية رقم ‏(‏117‏)‏

‏{‏إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا‏}‏

قوله تعالى‏{‏إن يدعون من دونه‏}‏ أي من دون الله ‏}‏إلا إناثا‏}‏؛ نزلت في أهل مكة إذ عبدوا الأصنام‏.‏ و‏}‏إن ‏}‏نافية بمعنى ‏}‏ما‏}‏‏.‏ و‏}‏إناثا‏}‏ أصناما، يعني اللات والعزى ومناة‏.‏ وكان لكل حي صنم يعبدونه ويقولون‏:‏ أنثى بني فلان، قال الحسن وابن عباس، وأتى مع كل صنم شيطانه يتراءى للسدنة والكهنة ويكلمهم؛ فخرج الكلام مخرج التعجب؛ لأن الأنثى من كل جنس أخسه؛ فهذا جهل ممن يشرك بالله جمادا فيسميه أنثى، أو يعتقده أنثى‏.‏ وقيل‏{‏إلا إناثا ‏}‏مواتا؛ لأن الموات لا روح له، كالخشبة والحجر‏.‏ والموات يخبر عنه كما يخبر عن المؤنث لا تضاع المنزلة؛ تقول‏:‏ الأحجار تجبني، كما تقول‏:‏ المرأة تعجبني‏.‏ وقيل‏{‏إلا إناثا ‏}‏ملائكة؛ لقولهم‏:‏ الملائكة بنات الله، وهي شفعاؤنا عند الله؛ عن الضحاك‏.‏ وقراءة ابن عباس ‏}‏إلا وثنا ‏}‏بفتح الواو والثاء على إفراد اسم الجنس؛ وقرأ أيضا ‏}‏وثنا ‏}‏بضم الثاء والواو؛ جمع وثن‏.‏ وأوثان أيضا جمع وثن مثل أسد وآساد‏.‏ النحاس‏:‏ ولم يقرأ به فيما علمت‏.‏

قلت‏:‏ قد ذكر أبو بكر الأنباري - حدثنا أبي حدثنا نصر بن داود حدثنا أبو عبيد حدثنا حجاج عن ابن جريج عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضى الله عنها أنها كانت تقرأ‏{‏إن يدعون من دونه إلا أوثانا‏}‏‏.‏ وقرأ ابن عباس أيضا ‏}‏إلا أثنا‏}‏ كأنه جمع وثنا على وثان؛ كما تقول‏:‏ جمل وجمال، ثم جمع أوثانا على وثن؛ كما تقول‏:‏ مثال ومثل؛ ثم أبدل من الواو همزة لما انضمت؛ كما قال عز وجل‏{‏وإذا الرسل أقتت ‏}‏المرسلات‏:‏ 11‏]‏ من الوقت؛ فأثن جمع الجمع‏.‏ وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم‏{‏إلا أثنا ‏}‏جمع أثين، كغدير وغدر‏.‏ وحكى الطبري أنه جمع إناث كثمار وثمر‏.‏ حكى هذه القراءة عن النبي صلى الله عليه وسلم أبو عمرو الداني؛ قال‏:‏ وقرأ بها ابن عباس والحسن وأبو حيوة‏.‏

قوله تعالى‏{‏وإن يدعون إلا شيطانا مريدا‏}‏ يريد إبليس؛ لأنهم إذا أطاعوه فيما سول لهم فقد عبدوه؛ ونظيره في المعنى‏{‏اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله‏}‏التوبة‏:‏ 31‏]‏ أي أطاعوهم فيما أمروهم به؛ لا أنهم عبدوهم‏.‏ وسيأتي‏.‏ وقد تقدم اشتقاق لفظ الشيطان‏.‏ والمريد‏:‏ العاتي المتمرد؛ فعيل من مرد إذا عتا‏.‏ قال الأزهري‏:‏ المريد الخارج عن الطاعة، وقد مرد الرجل يمرد مرودا إذا عتا وخرج عن الطاعة، فهو مارد ومريد ومتمرد‏.‏ ابن عرفة هو الذي ظهر شره؛ ومن هذا يقال‏:‏ شجرة مرداء إذا تساقط ورقها فظهرت عيدانها؛ ومنه قيل للرجل‏:‏ أمرد، أي ظاهر مكان الشعر من عارضيه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏118‏)‏

‏{‏لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا‏}‏

قوله تعالى‏{‏لعنه الله‏}‏ أصل اللعن الإبعاد، وقد تقدم‏.‏ وهو في العرف إبعاد مقترن بسخط وغضب؛ فلعنة الله على إبليس - عليه لعنة الله - على التعيين جائزة، وكذلك سائر الكفرة الموتى كفرعون وهامان وأبي جهل؛ فأما الأحياء فقد مضى الكلام فيه في ‏}‏البقرة‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا‏}‏ أي وقال الشيطان؛ والمعنى‏:‏ لاستخلصنهم‏.‏ بغوايتي وأضلنهم بإضلالي، وهم الكفرة والعصاة‏.‏ وفي الخبر ‏(‏من كل ألف واحد لله والباقي للشيطان ‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ وهذا صحيح معنى؛ يعضده قوله تعالى لآدم يوم القيامة‏:‏ ‏(‏ابعث بعث النار فيقول‏:‏ وما بعث النار ‏؟‏ فيقول من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين ‏)‏‏.‏ أخرجه مسلم‏.‏ وبعث النار هو للمولود مسمارا عند ولادته، ودورانهم به يوم أسبوعه، يقولون‏:‏ ليعرفه العمار‏.‏

 الآية رقم ‏(‏119‏)‏

‏{‏ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولأضلنهم‏}‏ أي لأصرفنهم عن طريق الهدى‏.‏ ‏}‏ولأمنينهم ‏}‏أي لأسولن لهم، من التمني، وهذا لا ينحصر إلى واحد من الأمنية، لأن كل واحد في نفسه إنما يمنيه بقدر رغبته وقرائن حاله‏.‏ وقيل‏:‏ لأمنينهم طول الحياة الخير والتوبة والمعرفة مع الإصرار‏.‏ ‏}‏ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ‏}‏البتك القطع، ومنه سيف باتك‏.‏ أي أحملهم على قطع آذان البحيرة والسائبة ونحوه‏.‏ يقال‏:‏ بتكه وبتكه، ‏(‏مخففا ومشددا ‏)‏ وفي يده قطعة، والجمع بتك، قال زهير‏:‏

طارت وفي كفه من ريشها بتك

قوله تعالى‏{‏ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ‏}‏اللامات كلها للقسم‏.‏ واختلف العلماء في هذا التغيير إلى ماذا يرجع، فقالت طائفة‏:‏ هو الخصاء وفقء الأعين وقطع الآذان، قال معناه ابن عباس وأنس وعكرمة وأبو صالح‏.‏ وذلك كله تعذيب، للحيوان، وتحريم وتحليل بالطغيان، وقول بغير حجة ولا برهان‏.‏ والآذان في الأنعام جمال ومنفعة، وكذلك غيرها من الأعضاء، فلذلك رأى الشيطان أن يغير بها خلق الله تعالى‏.‏ وفي حديث عياض بن حمار المجاشعي‏:‏ ‏(‏وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم وأن الشياطين أتتهم فاجتالتهم عن دينهم فحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا وأمرتهم أن يغيروا خلقي ‏)‏‏.‏ الحديث، أخرجه القاضي إسماعيل ومسلم أيضا‏.‏ وروى إسماعيل قال‏:‏ حدثنا أبو الوليد وسليمان بن حرب قالا حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن أبيه قال‏:‏ أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا قشف الهيئة، قال‏:‏ ‏(‏هل لك من مال ‏)‏ ‏؟‏ قال قلت‏:‏ نعم‏.‏ قال ‏(‏من أي المال ‏)‏ ‏؟‏ قلت‏:‏ من كل المال، من الخيل والإبل والرقيق - قال أبو الوليد‏:‏ والغنم - قال‏:‏ ‏(‏فإذا أتاك الله مالا فلير عليك أثره ‏)‏ ثم قال‏:‏ ‏(‏هل تنتج إبل قومك صحاحا آذانها فتعمد إلى موسى فتشق آذانها وتقول هذه بمر وتشق جلودها وتقول هذه صرم لتحرمها عليك وعلى أهلك ‏)‏ ‏؟‏ قال‏:‏ قلت أجل‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وكل ما آتاك الله حل وموسى الله أحد من موسك، وساعد الله أشد من ساعدك‏)‏‏.‏ قال قلت‏:‏ يا رسول الله، أرأيت رجلا نزلت به فلم يقرني ثم نزل بي أفأقريه أم أكافئه ‏؟‏ فقال‏:‏‏(‏بل أقره ‏)‏‏.‏

ولما كان هذا من فعل الشيطان وأثره أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏}‏أن نستشرف العين والأذن ولا نضحي بعوراء ولا مقابلة ولا مدابرة ولا خرقاء ولا شرقاء ‏)‏ أخرجه أبو داود عن علي قال‏:‏ أمرنا؛ فذكره‏.‏ المقابلة‏:‏ المقطوعة طرف الأذن‏.‏ والمدابرة المقطوعة مؤخر الأذن‏.‏ والشرقاء‏:‏ مشقوقة الأذن‏.‏ والخرقاء التي تخرق أذنها السمة‏.‏ والعيب في الأذن مراعى عند جماعة العلماء‏.‏ قال مالك والليث‏:‏ المقطوعة الأذن أو جل الأذن لا تجزئ، والشق للميسم يجزئ، وهو قول الشافعي وجماعة الفقهاء‏.‏ فإن كانت سكاء، وهى التي خلقت بلا أذن فقال مالك والشافعي‏:‏ لا تجوز‏.‏ وإن كانت صغيرة الأذن أجزأت، وروي عن أبي حنيفة مثل ذلك‏.‏

وأما خصاء البهائم فرخص فيه جماعة من أهل العلم إذا قصدت فيه المنفعة إما لسمن أو غيره‏.‏ والجمهور من العلماء وجماعتهم على أنه لا بأس أن يضحي بالخصي، واستحسنه بعضهم إذا كان أسمن من غيره‏.‏ ورخص في خصاء الخيل عمر بن عبدالعزيز‏.‏ وخصى عروة بن الزبير بغلا له‏.‏ ورخص مالك في خصاء ذكور الغنم، وإنما جاز ذلك لأنه لا يقصد به تعليق الحيوان بالدين لصنم يعبد، ولا لرب يوحد‏.‏ وإنما يقصد به تطييب اللحم فيما يؤكل، وتقوية الذكر إذا انقطع أمله عن الأنثى‏.‏ ومنهم من كره ذلك، لقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون ‏)‏‏.‏ واختاره ابن المنذر وقال‏:‏ لأن ذلك ثابت عن ابن عمر، وكان يقول‏:‏ هو نماء خلق الله؛ وكره ذلك عبدالملك بن مروان‏.‏ وقال الأوزاعي‏:‏ كانوا يكرهون خصاء كل شيء له نسل‏.‏ وقال ابن المنذر‏:‏ وفيه حديثان‏:‏ أحدهما عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن خصاء الغنم والبقر والإبل والخيل‏.‏ والآخر حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صبر الروح وخصاء البهائم‏.‏ والذي في الموطأ من هذا الباب ما ذكره عن نافع عن ابن عمر أنه كان يكره الإخصاء ويقول‏:‏ فيه تمام الخلق‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ يعني في ترك الإخصاء تمام الخلق، وروي نماء الخلق‏.‏

قلت‏:‏ أسنده أبو محمد عبدالغني من حديث عمر بن إسماعيل عن نافع عن ابن عمر قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏لا تخصوا ما ينمي خلق الله ‏)‏‏.‏ رواه عن الدارقطني شيخه، قال‏:‏ حدثنا أبو عبدالله المعدل حدثنا عباس بن محمد حدثنا أبو مالك النخعي عن عمر بن إسماعيل، فذكره‏.‏ قال الدارقطني‏:‏ ورواه عبدالصمد بن النعمان عن أبي مالك‏.‏

الرابعة‏:‏ وأما الخصاء في الآدمي فمصيبة، فإنه إذا خصي بطل قلبه وقوته، عكس الحيوان، وانقطع نسله المأمور به في قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏تناكحوا تناسلوا فإني مكاثر بكم الأمم ‏)‏ ثم إن فيه ألما عظيما ربما يفضي بصاحبه إلى الهلاك، فيكون فيه تضييع مال وإذهاب نفس، وكل ذلك منهي عنه‏.‏ ثم هذه مثلة، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المثلة، وهو صحيح‏.‏ وقد كره جماعة من فقهاء الحجازيين والكوفيين شراء الخصي من الصقالبة وغيرهم وقالوا‏:‏ لو لم يشتروا منهم لم يخصوا‏.‏ ولم يختلفوا أن خصاء بني آدم لا يحل ولا يجوز؛ لأنه مثلة وتغيير لخلق الله تعالى، وكذلك قطع سائر أعضائهم في غير حد ولا قود، قال أبو عمر‏.‏

وإذا تقرر هذا فاعلم أن الوسم والإشعار مستثنى من نهيه عليه السلام عن شريطة الشيطان، وهي ما قدمناه من نهيه عن تعذيب الحيوان بالنار، والوسم‏:‏ الكي بالنار وأصله العلامة، يقال‏:‏ وسم الشيء يسمه إذا علمه بعلامة يعرف بها، ومنه قوله تعالى‏{‏سيماهم في وجوههم‏}‏الفتح‏:‏ 29‏]‏‏.‏ فالسيما العلامة والميسم المكواة‏.‏ وثبت في صحيح مسلم عن أنس قال‏:‏ رأيت في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم الميسم وهو يسم إبل الصدقة والفيء وغير ذلك حتى يعرف كل مال فيؤدى في حقه، ولا يتجاوز به إلى غيره‏.‏

والوسم جائز في كل الأعضاء غير الوجه، لما رواه جابر قال‏:‏ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضرب في الوجه وعن الوسم في الوجه، أخرجه مسلم‏.‏ وإنما كان ذلك لشرفه على الأعضاء، إذ هو مقر الحسن والجمال، ولأن به قوام الحيوان، وقد مر النبي صلى الله عليه وسلم برجل يضرب عبده فقال‏:‏ ‏(‏اتق الوجه فإن الله خلق آدم على صورته ‏)‏‏.‏ أي على صورة المضروب؛ أي وجه هذا المضروب يشبه وجه آدم، فينبغي أن يحترم لشبهه‏.‏ وهذا أحسن ما قيل في تأويله والله أعلم‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ الإشارة بالتغيير إلى الوشم وما جرى مجراه من التصنع للحسن؛ قال ابن مسعود والحسن‏.‏ ومن ذلك الحديث الصحيح عن عبدالله قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن، المغيرات خلق الله ‏)‏ الحديث أخرجه مسلم، وسيأتي بكماله في الحشر إن شاء الله تعالى‏.‏ والوشم يكون في اليدين، وهو أن يغرز ظهر كف المرأة ومعصمها بإبرة ثم يحشى بالكحل أو بالنئور فيخضر‏.‏ وقد وشمت تشم وشما فهي واشمة‏.‏ والمستوشمة التي يفعل ذلك بها؛ قال الهروي‏.‏ وقال ابن العربي‏:‏ ورجال صقلية وإفريقية يفعلونه؛ ليدل كل واحد منهم على رجلته في حداثته‏.‏ قال القاضي عياض‏:‏ ووقع في رواية الهروي - أحد رواة مسلم - مكان ‏}‏الواشمة والمستوشمة ‏}‏‏}‏الواشية والمستوشية ‏}‏‏(‏بالياء مكان الميم ‏)‏ وهو من الوشي وهو التزين؛ وأصل الوشي نسج الثوب على لونين، وثور موشى في وجهه وقوائمه سواد؛ أي تشي المرأة نفسها بما تفعله فيها من التنميص والتفليج والأشر‏.‏ والمتنمصات جمع متنمصة وهي التي تقلع الشعر من وجهها بالمنماص، وهو الذي يقول الشعر؛ ويقال لها النامصة‏.‏ ابن العربي‏:‏ وأهل مصر ينتفون شعر العانة وهو منه؛ فإن السنة حلق العانة ونتف الإبط، فأما نتف الفرج فإنه يرخيه ويؤذيه، ويبطل كثيرا من المنفعة فيه‏.‏ والمتفلجات جمع متفلجة، وهي التي تفعل الفلج في أسنانها؛ أي تعانيه حتى ترجع المصمتة الأسنان خلقة فلجاء صنعة‏.‏ وفي غير كتاب مسلم‏{‏الواشرات‏}‏، وهي جمع واشرة، وهي التي تشر أسنانها؛ أي تصنع فيها أشرا، وهي التحزيزات التي تكون في أسنان الشبان؛ تفعل ذلك المرأة الكبيرة تشبها بالشابة‏.‏ وهذه الأمور كلها قد شهدت الأحاديث بلعن فاعلها وأنها من الكبائر‏.‏ واختلف في المعنى الذي نهي لأجلها؛ فقيل‏:‏ لأنها من باب التدليس‏.‏ وقيل‏:‏ من باب تغيير خلق الله تعالى؛ كما قال ابن مسعود، وهو أصح، وهو يتضمن المعنى الأول‏.‏ ثم قيل‏:‏ هذا المنهي عنه إنما هو فيما يكون باقيا؛ لأنه من باب تغيير خلق الله تعالى، فأما ما لا يكون باقيا كالكحل والتزين به للنساء فقد أجاز العلماء ذلك مالك وغيره‏.‏ وكرهه مالك للرجال‏.‏ وأجاز مالك أيضا أن تشي المرأة يديها بالحناء‏.‏ وروي عن عمر إنكار ذلك وقال‏:‏ إما أن تخضب يديها كلها وإما أن تدع، وأنكر مالك هذه الرواية عن عمر، ولا تدع الخضاب بالحناء؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم رأى امرأة لا تختضب قال‏:‏ ‏(‏لا تدع إحداكن يدها كأنها يد رجل‏)‏ فما زالت تختضب وقد جاوزت التسعين حتى ماتت‏.‏

قال القاضي عياض‏:‏ وجاء حديث بالنهي عن تسويد الحناء، ذكره صاحب المصابيح ولا تتعطل، ويكون في عنقها قلادة من سير في خرز، فإنه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعائشة رضي الله عنها‏:‏ ‏(‏إنه لا ينبغي أن تكوني بغير قلادة إما بخيط وإما بسير‏.‏ وقال أنس‏:‏ يستحب للمرأة أن تعلق في عنقها في الصلاة ولو سيرا‏.‏ قال أبو جعفر الطبري‏:‏ في حديث ابن مسعود دليل على أنه لا يجوز تغيير شيء من خلقها الذي خلقها الله عليه بزيادة أو نقصان، التماس الحسن لزوج أو غيره، سواء فلجت أسنانها أو وشرتها، أو كان لها سن زائدة فأزالتها أو أسنان طوال فقطعت أطرافها‏.‏ وكذا لا يجوز لها حلق لحية أو شارب أو عنفقة إن نبتت لها؛ لأن كل ذلك تغيير خلق الله‏.‏ قال عياض‏:‏ ويأتي على ما ذكره أن من خلق بأصبع زائدة أو عضو زائد لا يجوز له قطعه ولا نزعه؛ لأنه من تغيير خلق الله تعالى‏:‏ إلا أن تكون هذه الزوائد تؤلمه فلا بأس بنزعها عند أبي جعفر وغيره‏.‏

قلت‏:‏ ومن هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لعن الله الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة ‏)‏ أخرجه مسلم‏.‏ فنهى صلى الله عليه وسلم عن وصل المرأة شعرها؛ وهو أن يضاف إليه شعر آخر يكثر به، والواصلة هي التي تفعل ذلك، والمستوصلة هي التي تستدعي من يفعل ذلك بها‏.‏ مسلم عن جابر قال‏:‏ زجر النبي صلى الله عليه وسلم أن تصل المرأة بشعرها شيئا‏.‏ وخرج عن أسماء بنت أبي بكر قالت‏:‏ جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ يا رسول الله، إن لي ابنة عريسا أصابتها حصبة فتمرق شعرها أفأصله ‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏لعن الله الواصلة والمستوصلة ‏)‏‏.‏ وهذا كله نص في تحريم وصل الشعر، وبه قال مالك وجماعه العلماء‏.‏ ومنعوا الوصل بكل شيء من الصوف والخرق وغير ذلك؛ لأنه في معنى وصله بالشعر‏.‏ وشذ الليث بن سعد فأجاز وصله بالصوف والخرق وما ليس بشعر؛ وهذا أشبه بمذهب أهل الظاهر‏.‏ وأباح آخرون وضع الشعر على الرأس وقالوا‏:‏ إنما جاء النهي عن الوصل خاصة، وهذه ظاهرية محضة وإعراض عن المعنى‏.‏ وشذ قوم فأجازوا الوصل مطلقا، وهو قول باطل قطعا ترده الأحاديث‏.‏ وقد روي عن عائشة رضي الله عنها ولم يصح‏.‏ وروي عن ابن سيرين أنه سأل رجل فقال‏:‏ إن أمي كانت تمشط النساء، أتراني آكل من مالها ‏؟‏ فقال‏:‏ إن كانت تصل فلا‏.‏ ولا يدخل في النهي ما ربط منه بخيوط الحرير الملونة على وجه الزينة والتجميل، والله أعلم‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ المراد بالتغيير لخلق الله هو أن الله تعالى خلق الشمس والقمر والأحجار والنار وغيرها من المخلوقات؛ ليعتبر بها وينتفع بها، فغيرها الكفار بأن جعلوها آلهة معبودة‏.‏ قال الزجاج‏:‏ إن الله تعالى خلق الأنعام لتركب وتؤكل فحرموها على أنفسهم، وجعل الشمس والقمر والحجارة مسخرة للناس فجعلوها آلهة يعبدونها، فقد غيروا ما خلق الله‏.‏ وقاله جماعة من أهل التفسير‏:‏ مجاهد والضحاك وسعيد بن جبير وقتادة‏.‏ وروي عن ابن عباس ‏}‏فليغيرن خلق الله ‏}‏دين الله؛ وقال النخعي، واختاره الطبري قال‏:‏ وإذا كان ذلك معناه دخل فيه فعل كل ما نهى الله عنه من خصاء ووشم وغير ذلك من المعاصي؛ لأن الشيطان يدعو إلى جميع المعاصي؛ أي فليغيرن ما خلق الله في دينه‏.‏ وقال مجاهد أيضا‏{‏فليغيرن خلق الله ‏}‏فطرة الله التي فطر الناس عليها؛ يعني أنهم ولدوا على الإسلام فأمرهم الشيطان بتغييره، وهو معنى قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ‏)‏‏.‏ فيرجع معنى الخلق إلى ما أوجده فيهم يوم الذر من الإيمان به في قوله تعالى‏{‏ألست بربكم قالوا بلى ‏}‏الأعراف‏:‏ 172‏]‏‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ روي عن طاوس أنه كان لا يحضر نكاح سوداء بأبيض ولا بيضاء بأسوده ويقول‏:‏ هذا من قول الله ‏}‏فليغيرن خلق الله‏}‏‏.‏ قال القاضي‏:‏ وهذا وإن كان يحتمله اللفظ فهو مخصوص بما أنفذه النبي صلى الله عليه وسلم من نكاح مولاه زيد وكان أبيض؛ بظئره بركة الحبشية أم أسامة وكان أسود من أبيض، وهذا مما خفي على طاوس مع علمه‏.‏

قلت‏:‏ ثم أنكح أسامة فاطمة بنت قيس وكانت بيضاء قرشية‏.‏ وقد كانت تحت بلال أخت عبدالرحمن بن عوف زهرية‏.‏ وهذا أيضا يخص وقد خفي عليهما‏.‏

قوله تعالى‏{‏ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله‏}‏ أي يطيعه ويدع أمر الله‏.‏ ‏}‏فقد خسر‏}‏ أي نقص نفسه وغبنها بأن أعطى الشيطان حق الله تعالى فيه وتركه من أجله‏.‏

 الآية رقم ‏(‏120 ‏:‏ 122‏)‏

‏{‏يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا، أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا، والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا‏}‏

قوله تعالى‏{‏يعدهم ‏}‏المعنى يعدهم أباطيله وترهاته من المال والجاه والرياسة، وأن لا بعث ولا عقاب، ويوهمهم الفقر حتى لا ينفقوا في الخير ‏}‏ويمنيهم ‏}‏كذلك ‏}‏وما يعدهم الشيطان إلا غرورا ‏}‏أي خديعة‏.‏ قال ابن عرفة‏:‏ الغرور ما رأيت له ظاهرا تحبه وفيه باطن مكروه أو مجهول‏.‏ والشيطان غرور؛ لأنه يحمل على محاب النفس، ووراء ذلك ما يسوء‏.‏ ‏}‏أولئك ‏}‏ابتداء ‏}‏مأواهم ‏}‏ابتداء ثان ‏}‏جهنم ‏}‏خبر الثاني والجملة خبر الأول‏.‏ و‏}‏محيصا ‏}‏ملجأ، والفعل منه حاص يحيص‏.‏ ‏}‏ومن أصدق من الله قيلا ‏}‏ابتداء وخبر‏.‏ ‏}‏قيلا ‏}‏على البيان؛ قال قيلا وقولا وقالا، بمعنى أي لا أحد أصدق من الله‏.‏ وقد مضى الكلام على ما تضمنته هذه الآي من المعاني والحمد لله‏.‏

 الآية رقم ‏(‏123‏)‏

‏{‏ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوء يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا‏}‏

قوله تعالى‏{‏ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب‏}‏ وقرأ أبو جعفر المدني ‏}‏ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب ‏}‏بتخفيف الياء فيها جميعا‏.‏ ومن أحسن ما روي في نزولها ما رواه الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال‏:‏ قالت اليهود والنصارى لن يدخل الجنة إلا من كان منا‏.‏ وقالت قريش‏:‏ ليس نبعث، فأنزل الله ‏}‏ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب‏}‏‏.‏ وقال قتادة والسدي‏:‏ تفاخر المؤمنون وأهل الكتاب فقال أهل الكتاب‏:‏ نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم ونحن أحق بالله منكم‏.‏ وقال المؤمنون‏:‏ نبينا خاتم النبيين وكتابنا يقضي على سائر الكتب، فنزلت الآية‏.‏

قوله تعالى‏{‏من يعمل سوءا يجز به ‏}‏السوء ههنا الشرك، قال الحسن‏:‏ هذه الآية في الكافر، وقرأ ‏}‏وهل يجازى إلا الكفور ‏}‏سبأ‏:‏ 17‏]‏‏.‏ وعنه أيضا ‏}‏من يعمل سوءا يجز به ‏}‏قال‏:‏ ذلك لمن أراد الله هوانه، فأما من أراد كرامته فلا، قد ذكر الله قوما فقال‏{‏أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون‏}‏الأحقاف‏:‏ 16‏]‏‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ يعني اليهود والنصارى والمجوس وكفار العرب‏.‏ وقال الجمهور‏:‏ لفظ الآية عام، والكافر والمؤمن مجازى بعمله السوء، فأما مجازاة الكافر فالنار؛ لأن كفره أوبقه، وأما المؤمن فبنكبات الدنيا، كما روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال‏:‏ لما نزلت ‏}‏من يعمل سوءا يجز به ‏}‏بلغت من المسلمين مبلغا شديدا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قاربوا وسددوا ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى النكبة ينكبها والشوكة يشاكها ‏)‏‏.‏ وخرج الترمذي الحكيم في ‏(‏نوادر الأصول، في الفصل الخامس والتسعين ‏)‏ حدثنا إبراهيم بن المستمر الهذلي قال حدثنا عبدالرحمن بن سليم بن حيان أبو زيد قال‏:‏ سمعت أبي يذكر عن أبيه قال صحبت ابن عمر من مكة إلى المدينة فقال لنافع‏:‏ لا تمر بي على المصلوب؛ يعني ابن الزبير، قال‏:‏ فما فجئه في جوف الليل أن صك محمله جذعه؛ فجلس فمسح عينيه ثم قال‏:‏ يرحمك الله أبا خبيب أن كنت وأن كنت ‏!‏ ولقد سمعت أباك الزبير يقول‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏من يعمل سوءا يجز به في الدنيا أو في الآخرة ‏)‏ فإن يك هذا بذاك فهيه‏.‏ قال الترمذي أبو عبدالله‏:‏ فأما في التنزيل فقد أجمله فقال‏{‏من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ‏}‏فدخل فيه البر والفاجر والعدو والولي والمؤمن والكافر؛ ثم ميز رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بين الموطنين فقال‏:‏ ‏(‏يجز به في الدنيا أو في الآخرة ‏)‏ وليس يجمع عليه الجزاء في الموطنين؛ ألا ترى أن ابن عمر قال‏:‏ فإن يك هذا بذاك فهيه؛ معناه أنه قاتل في حرم الله وأحدث فيه حدثا عظيما حتى أحرق البيت ورمي الحجر الأسود بالمنجنيق فانصدع حتى ضبب بالفضة فهو إلى يومنا هذا كذلك، وسمع للبيت أنينا‏:‏ آه آه ‏!‏ فلما رأى ابن عمر فعله ثم رآه مقتولا مصلوبا ذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من يعمل سوءا يجز به ‏)‏‏.‏ ثم قال‏:‏ إن يك هذا القتل بذاك الذي فعله فهيه؛ أي كأنه جوزي بذلك السوء هذا القتل والصلب‏.‏ رحمه الله ‏!‏ ثم ميز رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر بين الفريقين؛ حدثنا أبي رحمه الله قال حدثنا أبو نعيم قال حدثنا محمد بن مسلم عن يزيد بن عبدالله بن أسامة بن الهاد الليثي قال‏:‏ لما نزلت ‏}‏من يعمل سوءا يجز به ‏}‏قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه‏:‏ ما هذه بمبقية منا؛ قال‏:‏ ‏(‏يا أبا بكر إنما يجزى المؤمن بها في الدنيا ويجزى بها الكافر يوم القيامة ‏)‏‏.‏ حدثنا الجارود قال حدثنا وكيع وأبو معاوية وعبدة عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبي بكر بن أبي زهير الثقفي قال‏:‏ لما نزلت ‏}‏من يعمل سوءا يجز به ‏}‏قال أبو بكر‏:‏ كيف الصلاح يا رسول الله مع هذا ‏؟‏ كل شيء عملناه جزينا به، فقال‏:‏ ‏(‏غفر الله لك يا أبا بكر ألست تنصب، ألست تحزن، ألست تصيبك اللأواء ‏؟‏‏.‏ قال‏:‏ بلى‏.‏ قال ‏(‏فذلك مما تجزون به ‏)‏ ففسر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أجمله التنزيل من قوله‏{‏من يعمل سوءا يجز به‏}‏‏.‏ وروى الترمذي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنها لما نزلت قال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أما أنت يا أبا بكر والمؤمنون فتجزون بذلك في الدنيا حتى تلقوا الله وليس لكم ذنوب وأما الآخرون فيجمع ذلك لهم حتى يجزوا به يوم القيامة ‏)‏‏.‏ قال‏:‏ حديث غريب‏:‏ وفي إسناده مقال‏:‏ وموسى بن عبيدة يضعف في الحديث، ضعفه يحيى بن سعيد القطان وأحمد بن حنبل‏.‏ ومولى بن سباع مجهول، وقد روي هذا من غير وجه عن أبي بكر وليس له إسناد صحيح أيضا؛ وفي الباب عن عائشة‏.‏

قلت‏:‏ خرجه إسماعيل بن إسحاق القاضي قال حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا قال حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن يزيد عن أمه أنها سألت عائشة عن هذه الآية ‏}‏وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه‏}‏البقرة‏:‏ 284‏]‏ وعن هذه الآية ‏}‏من يعمل سوءا يجز به ‏}‏فقالت عائشة‏:‏ ما سألني أحد منذ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها؛ فقال‏:‏ ‏(‏يا عائشة، هذه مبايعة الله بما يصيبه من الحمى والنكبة والشوكة حتى البضاعة يضعها في كمه فيفقدها فيفزع فيجدها في عيبته، حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر من الكير ‏)‏‏.‏ واسم ‏}‏ليس ‏}‏مضمر فيها في جميع هذه الأقوال؛ والتقدير‏:‏ ليس الكائن من أموركم ما تتمنونه، بل من يعمل سوءا يجز به‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى ليس ثواب الله بأمانيكم ‏}‏إذ قد تقدم ‏}‏والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ‏}‏يعني المشركين؛ لقوله تعالى‏{‏إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد‏}‏غافر‏:‏ 51‏]‏‏.‏ وقيل‏{‏من يعمل سوءا يجز به ‏}‏إلا أن يتوب‏.‏ وقراءة الجماعة ‏}‏ولا يجد له ‏}‏بالجزم عطفا على ‏}‏يجز به‏}‏‏.‏ وروى ابن بكار عن ابن عامر ‏}‏ولا يجد ‏}‏بالرفع استئنافا‏.‏ فإن حملت الآية على الكافر فليس له غدا ولي ولا نصير‏.‏ وإن حملت على المؤمن فليس له ولي ولا نصير دون الله‏.‏

 الآية رقم ‏(‏124‏)‏

‏{‏ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا‏}‏

شرط الإيمان لأن المشركين أدلوا بخدمة الكعبة وإطعام الحجيج وقرى الأضياف، وأهل الكتاب بسبقهم، وقولهم نحن أبناء الله وأحباؤه؛ فبين تعالى أن الأعمال الحسنة لا تقبل من غير إيمان‏.‏ وقرأ ‏}‏يدخلون الجنة ‏}‏الشيخان أبو عمرو وابن كثير ‏(‏بضم الياء وفتح الخاء ‏)‏ على ما لم يسم فاعله‏.‏ الباقون بفتح الياء وضم الخاء؛ يعني يدخلون الجنة بأعمالهم‏.‏ وقد مضى ذكر النقير وهي النكتة في ظهر النواة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏125‏)‏

‏{‏ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا‏}‏

قوله تعالى‏{‏ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا‏}‏ فضل دين الإسلام على سائر الأديان و‏}‏أسلم وجهه لله ‏}‏معناه أخلص دينه لله وخضع له وتوجه إليه بالعبادة‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ أراد أبا بكر الصديق رضي الله عنه‏.‏ وانتصب ‏}‏دينا ‏}‏على البيان‏.‏ ‏}‏وهو محسن ‏}‏ابتداء وخبر في موضع الحال، أي موحد فلا يدخل فيه أهل الكتاب؛ لأنهم تركوا الإيمان بمحمد عليه السلام‏.‏ والملة الدين، والحنيف المسلم وقد تقدم‏.‏

قوله تعالى‏{‏واتخذ الله إبراهيم خليلا‏}‏ قال ثعلب‏:‏ إنما سمي الخليل خليلا لأن محبته تتخلل القلب فلا تدع فيه خللا إلا ملأته؛ وأنشد قول بشار‏:‏

قد تخللت مسلك الروح مني وبه سمي الخليل خليلا

وخليل فعيل بمعنى فاعل كالعليم بمعنى العالم وقيل‏:‏ هو بمعنى المفعول كالحبيب بمعنى المحبوب، وإبراهيم كان محبا لله وكان محبوبا لله‏.‏ وقيل‏:‏ الخليل من الاختصاص فالله عز وجل أعلم اختص إبراهيم في وقته للرسالة‏.‏ واختار هذا النحاس قال‏:‏ والدليل على هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏وقد اتخذ الله صاحبكم خليلا ‏)‏ يعني نفسه‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لو كنت متخذا أبا بكر خليلا ‏)‏ أي لو كنت مختصا أحدا بشيء لاختصصت أبا بكر‏.‏ رضي الله عنه‏.‏ وفي هذا رد على من زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم اختص بعض أصحابه بشيء من الدين‏.‏ وقيل‏:‏ الخليل المحتاج؛ فإبراهيم خليل الله معنى أنه فقير محتاج إلى الله تعالى؛ كأنه الذي به الاختلال‏.‏ وقال زهير يمدح هرم بن سنان

وإن أتاه خليل يوم مسغبة يقول لا غالب مالي ولا حرم

أي لا ممنوع‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ومعنى الخليل‏:‏ الذي ليس في محبته خلل؛ فجائز أن يكون سمي خليلا لله بأنه الذي أحبه واصطفاه محبة تامة‏.‏ وجائز أن يسمى خليل الله أي فقيرا إلى الله تعالى؛ لأنه لم يجعل فقره ولا فاقته إلا إلى الله تعالى مخلصا في ذلك‏.‏ والاختلال الفقر؛ فروي أنه لما رمي بالمنجنيق وصار في الهواء أتاه جبريل عليه السلام فقال‏:‏ ألك حاجة ‏؟‏ قال‏:‏ أما إليك فلا‏.‏ فخلق الله تعالى لإبراهيم نصرته إياه‏.‏ وقيل‏:‏ سمي بذلك بسبب أنه مضى إلى خليل له بمصر، وقيل‏:‏ بالموصل ليمتار من عنده طعاما فلم يجد صاحبه، فملأ غرائره رملا وراح به إلى أهله فحطه ونام؛ ففتحه أهله فوجدوه دقيقا فصنعوا له منه، فلما قدموه إليه قال‏:‏ من أين لكم هذا ‏؟‏ قالوا‏:‏ من الذي جئت به من عند خليلك المصري؛ فقال‏:‏ هو من عند خليلي؛ يعني الله تعالى؛ فسمي خليل الله بذلك‏.‏ وقيل‏:‏ إنه أضاف رؤساء الكفار وأهدى لهم هدايا وأحسن إليهم فقالوا له‏:‏ ما حاجتك ‏؟‏ قال‏:‏ حاجتي أن تسجدوا سجدة؛ فسجدوا فدعا الله تعالى وقال‏:‏ اللهم إني قد فعلت ما أمكنني فافعل اللهم ما أنت أهل لذلك؛ فوفقهم الله تعالى للإسلام فاتخذه الله خليلا لذلك‏.‏ ويقال‏:‏ لما دخلت عليه الملائكة بشبه الآدميين وجاء بعجل سمين فلم يأكلوا منه وقالوا‏:‏ إنا لا نأكل شيئا بغير ثمن فقال لهم‏:‏ أعطوا ثمنه وكلوا، قالوا‏:‏ وما ثمنه ‏؟‏ قال‏:‏ أن تقولوا في أوله باسم الله وفي آخره الحمد لله، فقالوا فيما بينهم‏:‏ حق على الله أن يتخذه خليلا؛ فاتخذه الله خليلا‏.‏ وروى جابر بن عبدالله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏اتخذ الله إبراهيم خليلا لإطعامه الطعام وإفشائه السلام وصلاته بالليل والناس نيام ‏)‏‏.‏ وروى عبدالله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏يا جبريل لم اتخذ الله إبراهيم خليلا ‏)‏ ‏؟‏ قال‏:‏ لإطعامه الطعام يا محمد‏.‏ وقيل‏:‏ معنى الخليل الذي يوالي في الله ويعادي في الله‏.‏ والخلة بين الآدميين الصداقة؛ مشتقة من تخلل الأسراء بين المتخالين‏.‏ وقيل‏:‏ هي من الخلة فكل واحد من الخليلين يسد خلة صاحبه‏.‏ وفي مصنف أبي داود عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل ‏)‏‏.‏ ولقد أحسن من قال‏:‏

من لم تكن في الله خلته فخليله منه على خطر

آخر‏:‏

إذا ما كنت متخذا خليلا فلا تثقن بكل أخي إخاء

فإن خيرت بينهم فألصق بأهل العقل منهم والحياء

فإن العقل ليس له إذا ما تفاضلت الفضائل من كفاء

وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه‏:‏

أخلاء الرجال هم كثير ولكن في البلاء هم قليل

فلا تغررك خلة من تؤاخي فمالك عند نائبة خليل

وكل أخ يقول أنا وفي ولكن ليس يفعل ما يقول

سوى خل له حسب ودين فذاك لما يقول هو الفعول

 الآية رقم ‏(‏126‏)‏

‏{‏ولله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله بكل شيء محيطا‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولله ما في السماوات وما في الأرض‏}‏ أي ملكا واختراعا‏.‏ والمعنى إنه اتخذ إبراهيم خليلا بحسن طاعته لا لحاجته إلى مخالته ولا للتكثير به والاعتضاد؛ وكيف وله ما في السموات وما في الأرض ‏؟‏ وإنما أكرمه لامتثاله لأمره‏.‏

قوله تعالى‏{‏وكان الله بكل شيء محيطا ‏}‏أي أحاط علمه بكل الأشياء‏.‏

 الآية رقم ‏(‏127‏)‏

‏{‏ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما‏}‏

نزلت بسبب سؤال قوم من الصحابة عن أمر النساء وأحكامهن في الميراث وغير ذلك؛ فأمر الله نبيه عليه السلام أن يقول لهم‏:‏ الله يفتيكم فيهن؛ أي يبين لكم حكم ما سألتم عنه‏.‏ وهذه الآية رجوع إلى ما افتتحت به السورة من أمر النساء، وكان قد بقيت لهم أحكام لم يعرفوها فسألوا فقيل لهم‏:‏ إن الله يفتيكم فيهن‏.‏ روى أشهب عن مالك قال‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل فلا يجيب حتى ينزل عليه الوحي، وذلك في كتاب الله ‏}‏ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن‏}‏‏.‏ ‏}‏ويسألونك عن اليتامى‏}‏البقرة‏:‏ 220‏]‏‏.‏ و‏}‏يسألونك عن الخمر والميسر ‏}‏البقرة‏:‏ 219‏]‏‏.‏ ‏}‏ويسألونك عن الجبال‏}‏طه‏:‏ 105‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏وما يتلى عليكم‏}‏ ‏}‏ما‏}‏ في موضع رفع، عطف على اسم الله تعالى‏.‏ والمعنى‏:‏ والقرآن يفتيكم فيهن، وهو قوله‏{‏فانكحوا ما طاب لكم من النساء‏}‏النساء‏:‏3‏]‏ وقد تقدم‏.‏

وقوله تعالى‏{‏وترغبون أن تنكحوهن ‏}‏أي وترغبون عن أن تنكحوهن، ثم حذفت ‏}‏عن‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ وترغبون في أن تنكحوهن ثم حذفت ‏}‏في‏}‏‏.‏ قال سعيد بن جبير ومجاهد‏:‏ ويرغب في نكاحها وإذا كانت كثيرة المال‏.‏ وحديث عائشة يقوي حذف ‏}‏عن ‏}‏فإن في حديثها‏:‏ وترغبون أن تنكحوهن رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره حين تكون قليلة المال والجمال؛ وقد تقدم أول السورة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏128‏)‏

‏{‏وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإن امرأة ‏}‏رفع بإضمار فعل يفسره ما بعده‏.‏ و‏}‏خافت ‏}‏بمعنى توقعت‏.‏ وقول من قال‏:‏ خافت تيقنت خطأ‏.‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى وإن امرأة‏.‏ خافت من بعلها دوام النشوز‏.‏ قال النحاس‏:‏ الفرق بين النشوز والإعراض أن النشوز التباعد، والإعراض ألا يكلمها ولا يأنس بها‏.‏ ونزلت الآية بسبب سودة بنت زمعة‏.‏ روى الترمذي عن ابن عباس قال‏:‏ خشيت سودة أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ لا تطلقني وأمسكني، وأجعل يومي منك لعائشة؛ ففعل فنزلت‏{‏فلا جناح عليهما أن يصالحا بينهما صلحا والصلح خير ‏}‏فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز، قال‏:‏ هذا حديث حسن غريب‏.‏ وروى ابن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن رافع بن خديج كانت تحته خولة بنة محمد بن مسلمة، فكره من أمرها إما كبرا وإما غيرة، فأراد أن يطلقها فقالت‏:‏ لا تطلقني واقسم لي ما شئت؛ فجرت السنة بذلك فنزلت ‏}‏وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا‏}‏‏.‏ وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها ‏}‏وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا‏}‏ قالت‏:‏ الرجل تكون عنده المرأة ليس بمستكثر منها يريد أن يفارقها فتقول‏:‏ أجعلك من شأني في حل؛ فنزلت هذه الآية‏.‏ وقراءة العامة ‏}‏أن يصالحا‏}‏‏.‏ وقرأ أكثر الكوفيين ‏}‏أن يصلحا‏}‏‏.‏ وقرأ الجحدري وعثمان البتي ‏}‏أن يصلحا ‏}‏والمعنى يصطلحا ثم أدغم‏.‏

في هذه الآية من الفقه الرد على الرعن الجهال الذين يرون أن الرجل إذا أخذ شباب المرأة وأسنت لا ينبغي أن يتبدل بها‏.‏ قال ابن أبي مليكة‏:‏ إن سودة بنت زمعة لما أسنت أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلقها، فآثرت الكون معه، فقالت له‏:‏ أمسكني وأجعل يومي لعائشة؛ ففعل صلى الله عليه وسلم، وماتت وهي من أزواجه‏.‏

قلت‏:‏ وكذلك فعلت بنت محمد بن مسلمة؛ روى مالك عن ابن شهاب عن رافع بن خديج أنه تزوج بنت محمد بن مسلمة الأنصارية، فكانت عنده حتى كبرت، فتزوج عليها فتاة شابة، فآثر الشابة عليها، فناشدته الطلاق، فطلقها واحدة، ثم أهملها حتى إذا كانت تحل راجعها، ثم عاد فآثر الشابة عليها فناشدته الطلاق فطلقها واحدة، ثم راجعها فآثر الشابة عليها فناشدته الطلاق فقال‏:‏ ما شئت إنما بقيت واحدة، فإن شئت استقررت على ما ترين من الأثرة، وإن شئت فارقتك‏.‏ قالت‏:‏ بل أستقر على الأثرة‏.‏ فأمسكها على ذلك؛ ولم ير رافع عليه إثما حين قرت عنده على الأثرة‏.‏ رواه معمر عن الزهري بلفظه ومعناه وزاد‏:‏ فذلك الصلح الذي بلغنا أنه نزل فيه ‏}‏وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير‏}‏‏.‏ قال أبو عمر بن عبدالبر‏:‏ قول والله أعلم‏{‏فآثر الشابة عليها ‏}‏يريد في الميل بنفسه إليها والنشاط لها؛ لا أنه آثرها عليها في مطعم وملبس ومبيت؛ لأن هذا لا ينبغي أن يظن بمثل رافع، والله أعلم‏.‏ وذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال‏:‏ حدثنا أبو الأحوص عن سماك بن حرب عن خالد بن عرعرة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رجلا سأل عن هذه الآية فقال‏:‏ هي المرأة تكون عند الرجل فتنبو عيناه عنها من دمامتها أو فقرها أو كبرها أو سوء خلقها وتكره فراقه؛ فإن وضعت له من مهرها شيئا حل له أن يأخذ وإن جعلت له من أيامها فلا حرج‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ لا بأس أن ينقصها من حقها إذا تزوج من هي أشب منها وأعجب إليه‏.‏ وقال مقاتل بن حيان‏:‏ هو الرجل تكون تحته المرأة الكبيرة فيتزوج عليها الشابة؛ فيقول لهذه الكبيرة‏:‏ أعطيك من مالي على أن أقسم لهذه الشابة أكثر مما أقسم لك من الليل والنهار؛ فترضى الأخرى بما اصطلحا عليه؛ وإن أبت ألا ترضى فعليه أن يعدل بينهما في القسم

قال علماؤنا‏:‏ وفي هذا أن أنواع الصلح كلها مباحة في هذه النازلة؛ بأن يعطي الزوج على أن تصبر هي، أو تعطي هي على أن يؤثر الزوج، أو على أن يؤثر ويتمسك بالعصمة، أو يقع الصلح على الصبر والأثرة من غير عطاء؛ فهذا كله مباح‏.‏ وقد يجوز أن تصالح إحداهن صاحبتها عن يومها بشيء تعطيها، كما فعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان غضب على صفية، فقالت لعائشة‏:‏ أصلحي بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وهبت يومي لك‏.‏ ذكره ابن خويز منداد في أحكامه عن عائشة قالت‏:‏ وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم على صفية في شيء؛ فقالت لي صفية‏:‏ هل لك أن ترضين رسول الله صلى الله عليه وسلم عني ولك يومي ‏؟‏ قالت‏:‏ فلبست خمارا كان عندي مصبوغا بزعفران ونضحته، ثم جئت فجلست إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏{‏إليك عني فإنه ليس بيومك ‏)‏‏.‏ فقلت‏:‏ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء؛ وأخبرته الخبر، فرضي عنها‏.‏ وفيه أن ترك التسوية بين النساء وتفضيل بعضهن على بعض لا يجوز إلا بإذن المفضولة ورضاها‏.‏

قرأ الكوفيون ‏}‏يصلحا‏}‏‏.‏ والباقون ‏}‏أن يصالحا‏}‏‏.‏ الجحدري ‏}‏يصلحا‏}‏ فمن قرأ ‏}‏يصالحا ‏}‏فوجهه أن المعروف في كلام العرب إذا كان بين قوم تشاجر أن يقال‏:‏ تصالح القوم، ولا يقال‏:‏ أصلح القوم ‏؟‏ ولو كان أصلح لكان مصدره إصلاحا‏.‏ ومن قرأ ‏}‏يصلحا ‏}‏فقد استعمل مثله في التشاجر والتنازع؛ كما قال ‏}‏فاصلح بينهم‏}‏‏.‏ ونصب قوله‏{‏صلحا‏}‏ على هذه القراءة على أنه مفعول، وهو اسم مثل العطاء من أعطيت‏.‏ فأصلحت صلحا مثل أصلحت أمرا؛ وكذلك هو مفعول أيضا على قراءة من قرأ ‏}‏يصالحا ‏}‏لأن تفاعل قد جاء متعديا؛ ويحتمل أن يكون مصدرا حذفت زوائده‏.‏ ومن قرأ ‏}‏يصلحا ‏}‏فالأصل ‏}‏يصتلح ‏}‏ثم صار إلى يصطلحا، ثم أبدلت الطاء صادا وأدغمت فيها الصاد؛ ولم تبدل الصاد طاء لما فيها من امتداد الزفير‏.‏

قوله تعالى‏{‏والصلح خير‏}‏ لفظ عام مطلق يقتضي أن الصلح الحقيقي الذي تسكن إليه النفوس ويزول به الخلاف خير على الإطلاق‏.‏ ويدخل في هذا المعنى جميع ما يقع عليه الصلح بين الرجل وامرأته في مال أو وطء أو غير ذلك‏.‏ ‏}‏خير ‏}‏أي خير من الفرقة؛ فإن التمادي على الخلاف والشحناء والمباغضة هي قواعد الشر، وقال عليه السلام في البغضة‏:‏ ‏(‏إنها الحالقة ‏)‏ يعني حالقة الدين لا حالقة الشعر‏.‏

قوله تعالى‏{‏وأحضرت الأنفس الشح ‏}‏إخبار بأن الشح في كل أحد‏.‏ وأن الإنسان لا بد أن يشح بحكم خلقته وجبلته حتى يحمل صاحبه على بعض ما يكره؛ يقال‏:‏ شح يشح ‏(‏بكسر الشين ‏)‏ قال ابن جبير‏:‏ هو شح المرأة بالنفقة من زوجها وبقسمه لها أيامها‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ الشح هنا منه ومنها‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ وهذا أحسن؛ فإن الغالب على المرأة الشح بنصيبها من زوجها، والغالب على الزوج الشح بنصيبه من الشابة‏.‏ والشح الضبط على المعتقدات والإرادة وفي الهمم والأموال ونحو ذلك، فما أفرط منه على الدين فهو محمود، وما أفرط منه في غيره ففيه بعض المذمة، وهو الذي قال الله فيه‏{‏ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون‏}‏التغابن‏:‏16‏]‏‏.‏ وما صار إلى حيز منع الحقوق الشرعية أو التي تقتضيها المروءة فهو البخل وهي رذيلة‏.‏ وإذا آل البخل إلى هذه الأخلاق المذمومة والشيم اللئيمة لم يبق معه خير مرجو ولا صلاح مأمول‏.‏

قلت‏:‏ وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار‏:‏ ‏(‏من سيدكم ‏)‏ ‏؟‏ قالوا‏:‏ الجد بن قيس على بخل فيه‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وأي داء أدوى من البخل ‏)‏ ‏!‏ قالوا‏:‏ وكيف ذاك يا رسول الله ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏إن قوما نزلوا بساحل البحر فكرهوا لبخلهم نزول الأضياف بهم فقالوا ليبعد الرجال منا عن النساء حتى يعتذر الرجال بالرجال والنساء بالنساء ‏)‏‏.‏ وقد تقدم، ذكره الماوردي‏.‏

قوله تعالى‏{‏وإن تحسنوا وتتقوا ‏}‏شرط ‏}‏فإن الله كان بما تعملون خبيرا ‏}‏جوابه‏.‏ وهذا خطاب للأزواج من حيث إن للزوج أن يشح ولا يحسن؛ أي إن تحسنوا وتتقوا في عشرة النساء بإقامتكم عليهن مع كراهيتكم لصحبتهن واتقاء ظلمهن فهو أفضل لكم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏129‏)‏

‏{‏ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل‏}‏ أخبر تعالى بنفي الاستطاعة في العدل بين النساء، وذلك في ميل الطبع بالمحبة والجماع والحظ من القلب‏.‏ فوصف الله تعالى حالة البشر وأنهم بحكم الخلقة لا يملكون ميل قلوبهم إلى بعض دون بعض؛ ولهذا كان عليه السلام يقول‏:‏ ‏(‏اللهم إن هذه قسمتي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك‏)‏‏.‏ ثم نهى فقال‏{‏فلا تميلوا كل الميل‏}‏ قال مجاهد‏:‏ لا تتعمدوا الإساءة بل الزموا التسوية في القسم والنفقة؛ لأن هذا مما يستطاع‏.‏ وسيأتي بيان هذا في ‏}‏الأحزاب‏}‏ مبسوطا إن شاء الله تعالى‏.‏ وروى قتادة عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من كانت له امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه مائل ‏)‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏فتذروها كالمعلقة‏}‏ أي لا هي مطلقة ولا ذات زوج؛ قاله الحسن‏.‏ وهذا تشبيه بالشيء المعلق من شيء؛ لأنه لا على الأرض استقر ولا على ما علق عليه انحمل؛ وهذا مطرد في قولهم في المثل‏{‏ارض من المركب بالتعليق‏}‏‏.‏ وفي عرف النحويين فمن تعليق الفعل‏.‏ ومنه في حديث أم زرع في قول المرأة‏:‏ زوجي العشنق، إن أنطق أطلق، وإن أسكت أعلق‏.‏ وقال قتادة‏:‏ كالمسجونة؛ وكذا قرأ أبي ‏}‏فتذروها كالمسجونة‏}‏‏.‏ وقرأ ابن مسعود ‏}‏فتذروها كأنها معلقة‏}‏‏.‏ وموضع ‏}‏فتذروها‏}‏ نصب؛ لأنه جواب النهي‏.‏ والكاف في ‏}‏كالمعلقة‏}‏ في موضع نصب أيضا‏.‏

 الآية رقم ‏(‏130 ‏: 132)‏

‏{‏وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما، ولله ما في السماوات وما في الأرض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله غنيا حميدا، ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته ‏}‏أي وإن لم يصطلحا بل تفرقا فليحسنا ظنهما بالله، فقد يقيض للرجل امرأة تقر بها عينه، وللمرأة من يوسع عليها‏.‏ وروي عن جعفر بن محمد أن رجلا شكا إليه الفقر، فأمره بالنكاح، فذهب الرجل وتزوج؛ ثم جاء إليه وشكا إليه الفقر، فأمره بالطلاق؛ فسئل عن هذه الآية فقال‏:‏ أمرته بالنكاح لعله من أهل هذه الآية‏{‏إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله‏}‏ فلما لم يكن من أهل تلك الآية أمرته بالطلاق فقلت‏:‏ فلعله من أهل هذه الآية ‏}‏وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ‏}‏أي الأمر بالتقوى كان عاما لجميع الأمم‏:‏ وقد مضى القول في التقوى‏.‏ ‏}‏وإياكم‏}‏ عطف على ‏}‏الذين‏}‏‏.‏ ‏}‏أن اتقوا الله‏}‏ في موضع نصب؛ قال الأخفش‏:‏ أي بأن اتقوا الله‏.‏ وقال بعض العارفين‏:‏ هذه الآية هي رحى أي القرآن، لأن جميعه يدور عليها‏.‏

قوله تعالى‏{‏وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله غنيا حميدا، ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا‏}‏ إن قال قائل‏:‏ ما فائدة هذا التكرير ‏؟‏ فعنه جوابان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه كرر تأكيدا؛ ليتنبه العباد وينظروا ما في ملكوته وملكه وأنه غني عن العالمين‏.‏ الجواب الثاني‏:‏ أنه كرر لفوائد‏:‏ فأخبر في الأول أن الله تعالى يغني كلا من سعته؛ لأن له ما في السموات وما في الأرض فلا تنفد خزائنه‏.‏ ثم قال‏:‏ أوصيناكم وأهل الكتاب بالتقوى ‏}‏وإن تكفروا ‏}‏أي وإن تكفروا فإنه غني عنكم؛ لأن له ما في السموات وما في الأرض‏.‏ ثم أعلم في الثالث بحفظ خلقه وتدبيره إياهم بقوله‏{‏وكفى بالله وكيلا ‏}‏لأن له ما في السموات وما في الأرض‏.‏ وقال‏{‏ما في السموات‏}‏ ولم يقل من في السموات؛ لأنه ذهب به مذهب الجنس، وفي السموات والأرض من يعقل ومن لا يعقل‏.‏